(1)
نشر في 26 يناير2013 على حساب "صفحة الشرطة المصرية" على تويتر -وهي صفحة يديرها مجموعة من ضباط الشرطة بعيداً عن الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية- رسالة موجّهة لكل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء تشير إلى أنّهما وضعا الشرطة المصرية أمام المدفع مع اختبائهما "كالعادة" على حد وصف الرسالة، ورسالة أخرى موجهة لوزير الداخلية تتهمه بأنه فدى كرسيه بأرواح أفراد الشرطة. والرسالة الأخيرة موجهة لـ "للمجندين والضباط والأفراد الذين يقدمون حياتهم فداء لشعبٍ لا ينبغي أن تراق له نقطة ماء لا نقطة دماء" وذلك أيضاً على حد تعبير الرسالة التي شملتها تغريدة على حساب صفحة الشرطة المصرية.
(2)
في منطقة كرداسة وأثناء تأدية صلاة الجنازة على قتيل الشرطة أحمد البلكي الذي وقع ضحية أحداث اقتحام سجن بور سعيد العمومي في 27 يناير 2013، طرد العشرات من ضباط الشرطة وزير الداخلية وحاول البعض الاعتداء عليه، كما تم الإعتداء عليه لفظياً، حتى أنّ بعض القنوات التي نقلت مشاهد الحادثة قطعوا الصوت عن الفيديو.
(3)
مساعد وزير الداخلية للعلاقات العامة والإعلام اللواء أسامة إسماعيل على قناة النهار في برنامج "آخر النهار" مع الإعلامي خالد صلاح 26 يناير2013 يعترف بأنّ الشرطة في السويس خرجت عن شعورها وقامت بالاعتداء على المحال والمقاهي والسيارات وتكسيرها حاملين الذخائر والأسلحة النارية. يذكر أنّه كان يبرر لذلك الفعل بأنّهم خرجوا عن شعورهم!
(4)
اعتدت قوات الأمن في 27 يناير2013 على أهالي مدينة بور سعيد حينما كانوا يشيعون جنازة أحد الشهداء، مما أدى لإصابة أكثر من 300 من الأهالي، مع ورود أنباء عن وقوع قتلى مع نفي مدير مستشفى بور سعيد، يذكر -بناءً على أقوال الشهود ومنهم صحفيين- أن الشرطة لم تكتفي في اعتداءها على القنابل المسيلة للدموع، والخراطيش، إنما استخدمت أيضاً الرصاص الحيّ، وهذا أيضاً توضحه بشكلٍ جلي الإصابات.
ومع محاولة سريعة لتحليل الأحداث الأربعة السابقة يمكن القول بأنّه ومع الحدث رقم (1) و (2) : ثمة حالة حنقٍ وغضب من ضباط الشرطة تجاه لا فقط رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء اللذان يمثلان نظاماً حاكماً تجد الشرطة المصرية مشكلة في التعامل معه باعتباره السلطة الجديدة، التي يجب عليها الانصياع لأوامرها بضرورة الحال، ولكنّ أيضاً حالة الحنق هذه طالت وزير الداخلية، وهناك اتهامات موجهة له أنه يفدي كرسيه بأرواح الشرطة.
إنها إذاً إشارة لصفقة ما مبرمة بين وزير الداخلية والنظام الحاكم، وليست هذه هي الإشارة الأولى لوجود مثل هذه صفقة، فمنذ فترة وبعد تولي مرسي الرئاسة والحديث كثير عن وجود صفقة بين الإخوان والداخلية مقتضاها -كما يتردد- حماية النظام الحاكم، مقابل الإبقاء على الداخلية دون إعادة هيكلة أو مساس بسلطاتها وامتيازاته التي هي اعتباطية بالضرورة ولا أصل لها لا في دستورٍ ولا في قانون.
ليس لدي أي معلومات مؤكدة أو واضحة بشأن مثل هذه صفقة ولكن ومع افتراض وجودها، نستطيع القول أنّ تورّط داخلية أحمد جمال الدين (وزير الداخلية السابق) في العديد من عمليات التعذيب والقتل الناجم عنها، أو القتل المباشر في المظاهرات، وهي العمليات التي رصدتها العديد من منظمات حقوق الإنسان، بالإضافة إلى دورها في أحداث الاتحادية التي سبقت الاستفتاء على الدستور والتي بالإمكان وصف الداخلية فيها بالفشل على أقل تقدير أو التواطؤ كما بدى جلياً في أحداث حصار الشيخ المحلاوي في مسجد القائد إبراهيم [1]. وبعد المطالبات العديدة باستبعاد أحمد جمال الدين من التشكيل الوزاري الجديد الذي حدث بعد الاستفتاء على الدستور، وأخيراً ورود اسمه في تقرير لجنة تقصي الحقائق كأحد المتورطين في أحداث محمد محمود 2011، فكان لابد لمرسي أن يضع حداً لهذا الوزير الذي ورط إدارته في العديد من المآزق. إذاً يقيل مرسي وزير الداخلية، ويستبدله بالحالي، وأيضاً الصفقة تزال مستمرة وهذه المرة الاتهامات بوجودها يشارك في توجيهها صفٌ من الضباط.
الصفقات كلها ليست شريرة:
لقد حُمّل مصطلح الصفقة غيرَ معناه وما يشير إليه، وأصبح موسوماً بالعار والخيانة، ففقد معناه الحقيقي وما يترتب عليه، وصار يشير إلى معانٍ أخرى يُكرّس لها في ظل خطابٍ من المفترض أنّه هزم شر هزيمة كأحد أهم نتائج الثورة.
فتعريف الصفقة لغة:
الصَّفْقةُ: ضرب اليد عند البيع علامة إِنفاذه. و الصّفقة العقد. والصّفقة الْبيعةُ . ويقال: صَفْقَةٌ رابحةٌ أو خاسرةٌ. وأَعطاه صفقةَ يده أي أعطاه عَهْدَه. [2] والصفقة فقهاً من صَفْق وهو ضرب اليد على اليد في البيع علامة على إجرائه. [3] إذاً فلا يحمل معنى مصطلح الصفقة كما رأينا أي شبهة خيانة، فالصفقة مقايضة في تعريفها الأوّلي في معاجم الاقتصاد أي تقديم شيءٍ مقابل شيء، وهي كما تبدو عملية غاية في الحيوية من حيث أننا نستعملها يومياً وبصورةٍ طبيعية وعلى عدّة مستويات، في معظم معاملاتنا الحياتية، فالجلوس في المقهى صفقة، واستخدام الأتوبيس صفقة... إلخ.
إذاً فلا صحة في وسم "الصفقة" بالخيانة ، وخصوصاً في مجال العمل السياسي، وعندما نعلم أن بعض تعريفات السياسة هي "فن تحقيق الممكن في إطار العدالة"، وحيث أن الفن هو كل عملٍ متقن، والممكن هو المستطاع، والمتيسّر فيقال: أمكن الأمر أي سهل وتيسر وصار مستطاعاً [4]. وفيما يتيسّر لتحقيق الممكن عقد الصفقات، وأيضا إذا كان تعريف السياسة: "القدرة على التفاوض" ، والتفاوض يعني عقد الصفقات، والتنازل عن شيء مقابل تنازل الطرف الآخر عن شيء، وإعطاء شيء مقابل شيء... وهكذا. فهي إذاً اتفاقٌ بين طرفين. [5]
ولكن يبقى مع من تعقد الصفقة وبأيّ نتائج؟
كما ذكرنا في تعريف مصطلح الصفقة في اللغة، فيقال صفقة خاسرة أو رابحة، فإنه من الممكن أن تكون بعض الصفقات خاسرة لأحد الأطراف، وربما تكون خاسرة لكليهما. وفي استكمالنا الحديثَ عن صفقة مبرمة بين الإخوان والداخلية، ففي اعتقادي بناءً على إقالة وزير الداخلية السابق أحمد جمال الدين فإن المرحلة الأولى من الصفقة قد فشلت فشلاً ذريعاً، وأن الطرف الآخر في الصفقة قد أدرك خسارته أخيراً ولكن بعد تورط، ثمّ يصرّ أن يعيد إنتاج الصفقة مرة أخرى في مرحلتها الثانية ولكن مع وزير داخلية آخر يبدو من خلال الحَدَثين (1) و (2) أنه ملتزم ببنود الصفقة، وأنّ ذلك يغضب ضباط داخليته.
في الحدثين (3) و (4) ما يشير إلى أنّ ضباط الداخلية بعيدين كل البعد عن الصفقة والالتزام بها، إما ذلك أو أنّهم وجدوها ببساطة صفقة تأتي عليهم، وأن نتائجها عكسية، كأنّ لسان الحال: "التزمنا بضبط النّفس ففقدنا هيبتنا وأرواحنا"، وفي اعتقادي أن فقد الهيبة لدى أفراد البوليس أكثر أهمية وحساسية من فقد الأرواح، فأحيانا ما نسمع عن قتيل من الشرطة في وقت "تأديته لواجبه الوطني" مثل محاولة إلقاء القبض على تشكيل عصابي أو مجموعة لصوص إلخ، لكننا في المقابل لا نرى مثل هذه الانتفاضات، أو ما يسمى "الخروج عن الشعور"، بل تستخدم مثل هذه الحالات في تلميع صورة الشرطة المصرية الحامية لحمى الأوطان، وذلك على العكس مما حصل أخيراً، في حين أنه كان من الممكن ترديد نفس الحديث عن تأدية الواجب، وحماية الوطن، في حادثة اقتحام سجن بور سعيد، أو حتى في حماية أيٍّ من المنشآت والمباني، وفي كل الأحوال هي حماية وتأدية للواجب، لكن الحادث هنا مختلف، إنها في الأصل معركة بين فصيلين، أحدهما كان خاضعاً للسلطة المطلقة التي تمتع بها الفصيل الآخر وفرضها بالصورة الأجلى والأقصى، ثمّ تمرّد عليها، وقرر أنه سيخوض ضدها/السلطة معركة أظهرت له قوّته وإمكانية هزيمة هذه السلطة وفصيلها المسيطر/الشرطة شر هزيمة كما حدث في 28 يناير، أو كما يقول العيسوي وزير الداخلية الأسبق: "الشرطة انتقلت إلى رحمة الله يوم 28 يناير".[6]
بالضرورة فقدت الشرطة هيبتها للأبد في الشارع، ولدى أفراد المجتمع المصري، وليس لذلك علاقة بأي صفقات، وهذا كما أظن هو ما لا يستوعبه ضباط الشرطة المنتفضين على وزيرهم، ففي الأغلب كانت المؤسسة بأفرادها تظن أنّ المعارك اللاحقة لـ28 يناير كفيلة بإعادة الهيبة المستلبة، وإعادة إحكام سيطرتهم على الشارع، ويبدو أنّهم كانوا يحمّلون أحداث محمد محمود 2011 آمالاً كبيرة، وأن قائد المعركة أحمد جمال الدين -وزير الداخلية السابق ورئيس قطاع الأمن العام في فترة أحداث محمد محمود- سيعوّضهم ما سلبته الجماهير، إذاً فـ"جدع يا باشا".. فكما هو واضح ترجم الملازم أول محمّد الشناوي ما يفكّر فيه زملاؤه بقنصه لعيون المتظاهرين (الفصيل الثاني/العدو الذي سلبه الهيبة) وهو الفعل المتعمّد الذي يبتعد كل البعد عن الدور والواجب الذي وُظّف بناءً عليه في إحدى وزارات الدولة.
إنّ الشناوي بالفعل كان يتعامل مع عدو، وهو في أقصى حالات الاستنفار هو وزملاؤه وعساكرهم الذي عقّب أحدهم في حماس شديد: "جدع يا باشا"[7]. إذاً فإعادة الهيبة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالانتقام، وأن يكون وزير داخلية الانتقام، وإعادة الهيبة و "جدع يا باشا" هو العيسوي صاحب الرؤية تجاه الشرطة التي تتلخص فيما
ذكره بوضوح: "الشرطة انتقلت إلى رحمة الله في 28 يناير" فهذا مخيّب للآمال.
افتراض الصفقة يستدعي أنّ الإخوان كانوا على علمٍ بما يدور في أروقة الداخلية، فكان استدعاء جمال الدّين وزيراً للداخلية هي بداية جيّدة لصفقة ينالها الرضا من الطرفين، لكنّ جمال الدين كان مخيباً لآمال الإخوان، على الرّغم من أنّه كان جد مناسب لأفراد البوليس الذين وجدوا في ظلّه مناخاً مهيأً لإعادة إنتاج هيبتهم المسلوبة وربما بصورة أكثر وحشية، تسببت في أكثر من 200 حالة تعذيب أفضى بعضها للموت وتضمنت حالات اعتداء جنسي على نساء وأطفال وشيوخ، وغيرها من حالات التعذيب في الشارع، والقتل المباشر.
الآن لم يعد أحمد جمال الدين وزير الداخلية، وثمة وزير جديد ضباطه غير راضين عنه، وليس فقط في شريحة الضباط صغار السن، بل يبدو أيضاً أن عدم الرضا يصل لشرائح أكبر في الداخلية مثل مساعده لشؤون العلاقات العامة والإعلام أسامة إسماعيل والذي من الممكن أن يُفسّر تبريره لهمجية الشرطة في بورسعيد بأنّه محاولة فاشلة لتهدئة الرّأي العام، ولكن أيضاً يمكن أن يُفسر بأنّه تأييد ومؤازرة لحالة الغضب والتمرّد هذه والتي طالت الوزير نفسه.
القبيلة لا تعقد الصفقات ... الشرطة تكافح الشّعب:
إنّه إذاً وفي كل الأحوال إن كانت ثمّة صفقة بالفعل -وهو ما لا تؤكده أيّ معلومة لديّ- فهي تعد واحدة من أغبى الصفقات في التّاريخ، وهي الصفقة التي يخدع فيها طرفيها أنفسهما مع سبق الإصرار والترصّد، ويتجاهل كلا الطرفين أنّ التغير الذي حصل على إثر الثورة قد طال بنية المجتمع؛ الخطاب الأمني الذي كان مسيطراً عليه و فيه؛ وأنّه لم تعد هناك أي فرصة لنجاح أي محاولات لأن تعود الشرطة لما كانت عليه قبل الثّورة، إنها محاولة إحياء الموتى، التي لا مفر ستفشل في كل مرة، ولن تؤدّي في النّهاية إلا لزيادة الغضب الشعبي، وتحوّله لعنف في علاقة طردية، تمر البلاد بصورة في صوره التي أرى أنّها ليست أشدّها فإن لم يبادر النظام الحاكم بانتهاز الفرصة المواتية الآن أكثر من أي وقتٍ آخر بإصداره قرارات فورية وحاسمة تكون بداية حقيقية لهيكلة وتطهير جذري لهذا الجهاز الفاشل الذي لا يكتفي بتوريط البلاد في حالة فوضى وحرب أهلية بل بذلك أيضاً يورّط القائمين على رأس هذا النظام مع شعبهم، فإما الإسراع بالتعامل مع فشل وفاشية وهمجية وبلطجة الداخلية أو أن السوء سيطال النظام الحاكم بصور أكثر غضباً وعنفاً، فممارسات الشرطة لا تدع أي مجال للشك لكل ذي بصيرة أنها لا تنوي سلاماً لهذه البلد، وأنّ الرؤية التي يمكن تلخيصها في "عليّ وعلى أعدائي" هي ما يرى من خلاله أفراد الشرطة، وما يتعاملون ويفعلون بناءً عليه، وأنّ كل من تسبب، ويتسبب في فقدانهم ما يزعمون أنه الهيبة فإنّ نيران غضبهم المتمثلة في الهمجية وفوضى البلطجة ستناله، وإن كان وزيرهم. إنها مرحلة خطيرة في تطوّر هذه العقلية (عقلية الضابط الحذاء) يقوده الضباط الأصغر سنّاً متأثرين لا شك بالجو العام الذي غيّرت وبدلت فيه الثورة، فلا لعق لأحذية الأكابر ما لم يرجعوا المسلوب، وسندهس العبيد الذين تمرّدوا، وهي أيضاً وكما يسمّيها دكتور أسامة القفاش العقلية القبلية [8] التي يمتاز بها الضباط الأصغر سنّاً!
ولا يمكننا بأي حالٍ من الأحوال أن نغض الطرف -كمثال- عن قصيدة طالب أكاديمية الشرطة المثالي أيمن محمود حبلص التي يتوعّد فيها الشّعب: "ضباط الشرطة أسيادك... وأبو دبورة وشورت وكاب هيخلوا عيشة أهلك هباب" [9] كتلخيص نموذجي عن هذه العقلية التي يُروّج أن الإخوان يحاولون عقد الصفقات مع أصحابها، أو -وكما هو واضح دون ترويج- لا يسعون في سبيل التعامل معها وفق مقتضياتٍ موضوعية فرضتها لحظة تاريخية تؤكّد على أنّ مفرخة هذه العقلية لابد من إعادة هيكلتها بالشّكل الذي يوحي بتدميرها وإعادة بنائها من جديد، وفق عقيدة جديدة، ومنهج مغاير ينتج عقلية مغايرة تكافح الجريمة لا الشّعب.. والله أعلم.
هوامش:
[1] شهادة مصورة للمصور الصحفي عمرو صلاح الدين
[2] معجم الوسيط
[3] معجم المصطلحات الفقهية
[4] المعجم الغني، ومعجم اللغة العربية المعاصر
[5] القاموس10 .. الصفقة ومعناها- دكتور أسامة القفاش
[6] http://www.almasryalyoum.com/node/496948
[7]http://www.youtube.com/watch?v=QbPCl3Wuvx4
[8] عن القانون والقبلية- دكتور أسامة القفاش.
[10] بلإمكان أيضاً الرجوع لمقالة محمد بلال: أغبى صفقة في التّاريخ